
عندما نستمع الى أقوال العلماء و الشخصيات و عباقرة التاريخ نراهم غالبا يتعرضون لشجاعة الإمام الحسين عليه السلام و بسالته في مقاومة الأعداء مع قلة العدد و العُدّة و يجعلون من الحسين رمزا للحرية و الإباء و عدم الخضوع و الخنوع للظلم و الظالمين في أحنك الظروف و أشقّها ، حيث صوّر بدمه الشريف الذي سال على ثرى الطف يوم عاشوراء ، أنصع و أرقى و أعظم رسمة رسمها التاريخ للتضحيات في سبيل المبدأ دون منازع .
نحن لا نرد على هذا الأمر بل نقرّه و نعترف به .. و لكن هناك لغزٌ آخر في حركة الحسين قلّ من أشار اليه .
اذا كان الكلام في الشجاعة و الشهامة و عدم الخضوع للباطل فكل الأئمة عليهم السلام بل و كل الأحرار في العالم يشاركون الحسين في هذا الشأن . فأئمتنا عليهم السلام لم يخضعوا أبدا للظالمين و لم ينحازوا اليهم وحتى الإمام المجتبى عليه السلام الذي اضطر لقبول الهدنة مع خصمه ، كان في نفس اتجاه الحسين سلام الله عليه دون أن يحيد منه قيد أنملة . معنى ذلك أن هناك شيئا آخر يدعو الى التفكر في هذه النهضة المباركة .
فلنستمع الى مولانا الإمام الصادق عليه السلام حين يرسم حركة سيد الشهداء عليه السلام بقوله :
“ و بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة و حيرة الضلالة “ اذن الأصل هو الله و التقرب اليه. فإن وصل الأمر الى الله وهو غاية آمال العارفين ، فإن التضحية تكون سهلة يسيرة بل حلوة كالعسل .
و في هذه الجملة الصغيرة للإمام ، نرى بوضوح هدف القيام المبارك :
١- التحرر من الجهل و العمى ٠ ٢-الخروج من الضلالة و التحير .
و الإمام الحسين لأجل هاذين الهدفين ، بدأ حركته الخالدة مرورا بكل الصعوبات و المشاق بقلب كبير و سعي متواصل و فؤاد واثق و توكل كامل فأصبح الطريق أمامه سهلا معبّدا ميسورا .
كل انسان له حركة وثورة ، فإنه يقدم التضحيات في سبيل إنجاح ثورته و لكن إذا كان الأمر لله فإنه يختلف الأمر كله من البدء الى الختم . و لذلك نرى أن الحسين كلما تكابدت عليه الأعداء و كلما زدادت المصائب ، تنفرج أسارير وجهه كبُرعم ورد و يظهر أكثر شجاعة و قوة . فهل يعي الذين يتحدثون عن الشجاعة و البسالة ماذا تعني هذه الكلمات ؟!
و تتلخص في أن الحسين وضع كل ما يملك في طبق الإخلاص و قدمه الى المعبود دون أن يطلب منه شيئا الا رضاه . هنا يكمن اللغز ، اتك لا تريد بتضحياتك نعيم الجنة و لا تخشى سعير جهنم .. تريده هو ولا غير و لا تبادل رضاه بكل ما في الوجود من مادة و معنى . هنا يكمن سمو المعنى في سمو الذات .
هذا ما يشير اليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله :
““فَهَبْني يا اِلـهى وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني (يا اِلـهي) صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ اِلى كَرامَتِكَ “
يمكنني أن أصبر على حر نارك و لكن لا أتمكن من فراقك طرفة عين .
اني للوصول اليك أصرخ صراخ المستصرخين و أبكي بكاء الفاقدين لأنادينّك أخيرا : أي أنت يا ولي المؤمنين.
نعم يمكننا اليوم أن ننظم قصيدة أو نكتب مقالا نثريا في وصف سيد الشهداء و لكن هيهات أن يصل أحدنا الى ما وصل اليه .. هناك فرق بين القول و الفعل ، فرقٌ بين من يدعي الحب و بين من لا يرى غير المحبوب .
قد نقرأ في لسان حاله :
”تركت الخلق طرا في هواكا
و أيتمت العيال لكي أراكا
ولو قطعتني في الحب إربا
لما حنّ الفؤاد الى سواكا”
بما ارتقى هذا الشعر الى ما يسري في فؤاد الحسين .
و اذا تصفحنا كتب التاريخ نرى أن الناس في الحسين مذاهب :
فمنهم من يشير الى وفائه في عهده مع بارئه
و منهم من يجعله رمزا للشجاعة و أسوة للإباء
و منهم من يجعل منه قدوة للأحرار على مر الزمان و المكان .
منهم من ينظر اليه نظرة شهامة و يعتز بزهده و غناه عن الناس
و منهم من يعتبره أسوة للعدالة و الحق
و منهم من يسميه قديسا و يتبارك باسمه
و لكن .. ما يجعله فوق هذا كله ، عبوديته لله و خلوصه في عبوديته. هذا التفاني في المعبود و الخلوص في القرب ، هو ما يميزه و يجعله فوق تصور الذين يعيشون على كوكب الأرض.
و عندما يحذره بعض الأصحاب و يشير الى خطورة القيام ، يقول بدون تأمل :
“ لا والله لا أفارق الطريق الأقوم حتى يقضي الله ما هو قاضٍ”
و حسين .. العاشق المتفاني في حبيبه يسير بخطى ثابتة في ميدان الجهاد و لا يخشى أي شيء لأنه لا يرى الا المحبوب والمعبود . و ربما كان هذا سر بقائه و خلوده ما دامت الأرض و السماء وهذا ما يجعلنا نحبّه و نهواه . و مهما أحببناه و أحببنا معبوده ، يبقى الفرق بيننا و بينه كالفرق بين النجوم و الشمس الوضاءة .
أجل .. كلنا نشترك في حب الله و لكن هناك من يمشي الهوينا و هناك من يمشي أسرع من البرق
هناك من يسير برجليه و هناك من يسير برأسه
هناك من يراقب الأعداء و يأخذ الخيطة و هناك من لا يرى الا وجهه فلا يخشى شيئا أبدا
هناك من يسير بمعرفة سطحية و هناك من يسير بمعرفة كاملة
هناك من يحذر الأعداء و هناك من يخشى اله السماء
و بهذا وصل الحسين الى ربه راضيا مرضيا و بقينا نحن أصحاب المادة زاحفين في أوائل الطريق .
التصنيفات :خواطر
اترك تعليقًا