عندما كنت في لبنان سنة ١٩٧٤ أدرس مع أصحاب لي في جامعة بيروت العربية .. و كنا ساكنين في قرية القماطية الجميلة جدا بحدائقها و أشجارها و ثمارها و بساطة بيوتها و عذوبة مائها و كثرة عيونها و اخضرار أراضيها و برودة هوائها خلال أيام الصيف الحارة ، ننتظر قدوم الإمتحان .
و كان سكرتير سماحة السيد صديقا لي منذ عهدنا في النجف الأشرف و يكثر من الإتيان الى منزلنا . و ذات يوم قلت له : نريد زيارة السيد المبجل . فقال : موعدكم بعد غد الساعة العاشرة صباحا .
و بعد يومين ذهبنا برفقة الأصحاب الى المجلس الأعلى لمقابلة السيد . و مضى وقت اللقاء دون أن يُفتح الباب .
فقلت للشيخ : لا نستطيع البقاء طويلا لأن الشباب تهمهم الدراسة و أما أنا شخصيا فلم أهتم كثيرا للدراسة ، لا لأني لا أحبها و لكن لأنني كنت ملمّا بالدروس تماما .
قال الشيخ : اللقاء مع كبير الصحفيين في مجلة لوموند الفرنسية !
قلت له : اذهب و قل للسيد : سيد جواد المهري ابن سيد عباس يريد لقاءك و مستعجل !
و ما أن دخل الشيخ الى الغرفة ، الا و سمعت سماحته يقول بأعلى صوته : السيد المهري منا و فينا .. خل يتفضل حتى ما يحتاج الى موعد .
دخلنا الغرفة و استقبلنا بحفاوة شديدة و ابتسام مليح كعادته مع من يلتقيهم .
ثم استفسر عن أحوال الوالد و أبدى اشتياقه الكبير للقائه ، خاصة أنه لم يره منذ سنتين تقريبا . و بعد السؤال عن أحوالنا بدأ بالكلام معي باللغة الفارسية ! و بعد بضع دقائق سألني : أصدقائك كلهم يعرفون الفارسية ؟ قلت : ماعدا الأخ بدر جمال (رحمه الله) فإنه لا يتقن اللغة اتقانا . فقال : طيب نغير القناة الى العربية .
ثم تحدث عن لقائه مع مندوب لوموند وقال : ان هذا الشخص لا يلتقي الا مع الزعماء . قلت : و أنت كبيرهم . فقال : أنا خادمكم (يا له من تواضع و لين جانب وهو في القمة) ثم بدأ يكلم الصحفي الكبير باللغة الفرنسية بكل راحة . و قدم له الآخر صورا كان قد صورها لسماحته في السفرة السابقة .
فقال لي ممازحا بالفارسية : (چقد خوشگل گرفته ! تصوير جميل جدا ) فقلت له ممازحا : و للهيكل قسطٌ من الثمن ! فقال : ” بل كل الثمن ” ( و هذا أيضا من شدة تواضعه)
ثم بدأنا الحديث من كل صوب و أخبر الشيخ بأن يلغي بقية اللقاءات ليرتاح في الحديث معنا الى آخر الوقت .
ومما جاء في حديثنا معا أن قلت له : هؤلاء الأجانب ليسوا طاهرين حسب بعض المراجع و صعب التعامل معهم خاصة في الجو الحار و العرق يتصبب منكم . فقال : و لكني لا أعتبر نجاسة الكفار نجاسة ظاهرية انما هي معنوية و لذلك فعندي كلهم حتى الملاحدة طاهرون و نجاستهم قلبية و معنوية .
و لكن دعني أقول لك وضعي في البيت . كل يوم بعد ما أصل الى البيت ، تقول لي زوجتي : لا تقترب فأنت تقابل الكفار و حتى ملابسك نجسة ! أول شي روح للحمام و طهر نفسك بعدين أدخل . كان يقول ذلك مبتسما . قلت له : و أنت أكيد تطيعها ؟! قال : غصبا علي !
و بعد أكثر من ساعتين و الحديث اللطيف المحبب الينا مع سماحته أردنا أن نودعه فقال : أنا أعزمك و أصدقاءك الى صور يوم الجمعة القادم لنلتقي و نتغدى مع بعض . أجبت بالموافقة بارتياح و شكرته كثيرا .. ثم استدرك قائلا : انتو ما لازم تجون قبل الظهر لأني أصلي صلاة الجمعة .. تعالوا بعد وقت الصلاة . ( لكي لا يكون حرجا لنا مثلا الإقتداء به .. يا لها من نظرة ثاقبة ) فقلت : لا ، سوف نأتي قبل الظهر و لنا الفخر والشرف أن نصلي خلفك . ثم ودعنا بالقبلات و التحيات الحارة . سلام الله عليه
التصنيفات :خواطر
اترك تعليقًا